سيظل تاريخ التواجد العُماني في شرق أفريقيا تتواصل مآثره وعبقه عبر الحقب التاريخية المختلفة، بما له تأثيرات حضارية وثقافية وفكرية ولغوية ودينية، أدّى خلالها العُمانيون دورًا مهمًا في تاريخ شرق إفريقيا، بما امتلكوه من مقومات جغرافية، وإرث حضاري وديني، وما تبوأته عُمان من مكانة تاريخية متقدمة ساعدتها على نقل كثير من ملامحها إلى مناطق شرق إفريقيا، فأثرت تأثيرًا واضح المعالم على مجتمعاتها، ودينها، واقتصادها، وثقافتها، وحضارتها، ولغتها، وأصبحت مناطق شرق إفريقيا بوجه خاص تنهل من الحضارة العربية العمانية وتعيش على مقوماتها وأبعادها خاصة بعد أن تأسست سلطنة زنجبار.
وقد وثقت دراسة صدرت حديثاً للبااحثة العمانية الدكتورة هدى بنت عبدالرحمن الزدجالية، قراءة مغايرة لوقائع التاريخ العماني في إفريقيا، من خلال كتابها الجديد «العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق إفريقيا 1870-1970م»، الذي يأتي ضمن المشروع الثقافي لجمعية الكتّاب والأدباء العمانيين، لدعم الكاتب والكتاب العماني لعام 2021م.
تذهب الباحثة في هذا الكتاب لتقدم العمانيين كرواد لساحل إفريقيا، وأكثرهم تأثيرًا، ولم يكن تاريخ العمانيين بشرق إفريقيا حسب رؤيتها في مجال التأريخ مرتبطًا بالنشاط التجاري أو السياسي فقط بل تعداه إلى مختلف الأنشطة.
تأتي الدراسة في خمسة فصول،حمل الأول منها عنوان «دور العمانيين في انتشار الإسلام في شرق إفريقيا»، وتذكر فيه أبرز طرق انتشار الإسلام في شرق إفريقيا في العهد البوسعيدي، وأساليب العُمانيين في نشر الدعوة الإسلامية، مع التطرق لأشهر العلماء والفقهاء العُمانيين وغير العمانيين ونتاجهم الفكري غير مغفلين الحديث عن موقف العُمانيين من تعدد المذاهب الفقهية والطوائف الدينية بشرق إفريقيا مع إبراز سياسة التسامح الديني والاجتماعي التي انتهجها العُمانيون هناك بشتى أشكالها المختلفة، وموقف العُمانيين من العادات والمعتقدات السائدة في شرق إفريقيا، وما جرى بها من متغيرات بعد دخول الإسلام، وذكر أهم الصعوبات الداخلية والخارجية التي واجهت العُمانيين في الدعوة بشرق إفريقيا، وكيف واجهها العُمانيون، وتصدوا لها، وفي مقدمتها الاستعمار بأشكاله، وصوره المتعددة، ثم سنختم الفصل بالحديث عن اهتمام العُمانيين بالأوقاف، وكيفية إدارتها، ودورها في المنطقة.
وجاء الفصل الثاني بعنوان «الدور العماني الثقافي، وأهم المؤسسات العلمية، والثقافية العمانية في شرق إفريقيا» دور العمانيين في نشر اللغة العربية، وظهور اللغة السواحيلية في شرق إفريقيا، إذ بدأت بالحديث عن انتشار اللغة العربية، ودور العُمانيين في انتشارها، والتطرُّق لأثر الاستعمار في اضمحلالها، لننتقل بعدها إلى موضوع انتشار اللغة السواحلية، وظهورها، وارتباطهما، وأثر اللغة العربية في الأدب السواحلي، ودور العُمانيين في انتشار اللغة السواحلية بآدابها المختلفة، ومناقشة موضوعي الاستعمار والتبشير وأثرهما في اللغة السواحلية، وأبرز المؤسسات الثقافية في شرق إفريقيا، بداية بالمساجد ودورها الثقافي، ثم الكتاتيب والمدارس والمعاهد العلمية ودورها في نشر مظلة التعليم والثقافة، مرورًا بالمجالس العامة والخاصة، ودور العلماء، وإسهامها الثقافي في مختلف مناحي الحياة، وننهي الفصل بالحديث عن أهم الجمعيات الإصلاحية ودورها الثقافي، وما تمخض عنها من متغيرات.
أما الفصل الثالث فقد حمل عنوان «دور العمانيين التعليمي في شرق إفريقيا» الاهتمام بمجال التعليم، وظهور المدارس، وانتشارها، وتطورها، ولم تغفل الزدجالية ذكر مدارس الجاليات الهندية، والقمرية، والإسلامية، ومدارس الإرساليات التبشيرية، وأثرها التربوي، كما تناقش أهم المناهج الدراسية آنذاك، وتشير إلى أبرز المعلمين في مدارس زنجبار وشرق إفريقيا من مختلف الفئات السكانية، وأهم البعثات العلمية الخارجية في تلك الفترة سواء أكانت لدول عربية كمصر والعراق أم أوروبية، وتنتهي بذكر أهم العقبات التي واجهت النظام التعليمي.
في حين جاء الفصل الرابع يحمل اسم «المطابع والصحافة العمانية في شرق إفريقيا»، وتطرقت فيه الزدجالية إلى ظهور المطابع، ودورها في الحركة العلمية، وذكرت دور الصحافة العُمانية في شرق إفريقيا، وظهورها لأول مرة هناك، وأبرز الصحف العُمانية كالفلق، والنهضة، والإصلاح، والنجاح، وغيرها، وغير العُمانية الصادرة، وانتشارها، وتطوُّرها، وأهميتها، كما تعرج على علاقتها بالصحف العربية الأخرى الصادرة في الفترة نفسها، وعلاقة العُمانيين برواد حركة الإصلاح في العالم الإسلامي أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ومدى تأثرهم بهم، وتناقش كذلك علاقة العُمانيين بالعلماء المغاربة في زنجبار، والصلات التي ربطت بين الطرفين دينيًا وثقافيًا وإصلاحيًا، وتختتم الفصل بذكر موضوع البريد والبرق، ودورهما الثقافي في تلك الفترة.
وجاء الفصل الأخير الخامس بعنوان «دور العمانيين في التصدي لحركة التنصير والاستعمار الأوروبي»، تشير الزدجالية إلى الدور العماني في التصدي لحركة التنصير، والاستعمار الأوروبي في منطقة شرقي إفريقيا، وتطرقت كذلك لدور المؤسسات، والجمعيات التنصيرية، وأثرها في المنطقة، كما تحدثت فيه عن موقف الغرب من السلطات العربية، والإسلامية في ظل ظهور حركات المقاومة، والجهاد ضد القوى الأوروبية فضلًا عن التركيز على تصدي العُمانيين لها، وأمثلةٍ لتلك الحركات العُمانية المقاومة للاستعمار والتنصير، وأخيرًا نشير إلى العلاقات العُمانية مع شرق إفريقيا منذ عام 1964م وحتى نهضة 23 يوليو 1970م في عُمان مع حكم السلطان قابوس بن سعيد.
وسيظل الأثر الثقافي والفكري والحضاري العُماني في شرق إفريقيا باقيًا، لأنه صار جزءًا من كيان المجتمع والشواهد التاريخية والآثار الباقية ماثلة للعيان وشاهد عصر على ذلك التأثير والتأثر.
Comments