تتزاحم لدي المقدمات، فتصيبني حيرة كبيرة وشتات تصعب معهما العودة إلى بداية ترضيني، ولا سبيل أمامي إلا الاستسلام لأقربها إلى الولوج إلى مبتغاي، حيث كلها يفضي إلى المبتغى.
ولتسمحوا لي أن أقدم مواساتي لكل إنسان فقد أمه، طفلا كان أو كهلا، وأذكركم بأن الله سبحانه وتعالى لما فرض زكاة الفطر أو زكاة الأنفس، كان يحثنا على أن يشعر الغني بالفقير، وعندما حثنا رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - بتأخير زكاة الفطر إلى أواخر أيام رمضان وحتى قبل صلاة العيد، حتى يأتي العيد على الفقير وقد أغناه الله من فضله، فيشعر بفرحة العيد مثله مثل الغني.
وهنا يتساءل البعض: ما صلة هذا بذاك؟! فأجيبه: عندما كنا صغارا في الصفوف الأولى من المرحلة الابتدائية، كان لنا زميلا في الصف يتغيب عن الحضور إلى المدرسة يوما كل عام؛ نظرا لتأثره سلبا بالأجواء الاحتفالية التي تعيشها المدرسة، بداية من طابور الصباح ببرنامجه الكامل، إلى البرنامج المعد من كل صف بكل تفاصيله، إلى أن ينتهي هذا اليوم، هذا الزميل أتذكره تماما إلى الآن، رغم مرور نصف قرن تقريبا، وقد زاد عمري وعمره عليها، فلم يغب عن بالي كلما مر علي هذا اليوم، ولم يخلد ببالي تفاصيل هذا اليوم عنده، وما كان يعتريه من مشاعر.
الآن .. الآن وقد عرفت مقدار ما كان يعتصره من ألم، وما يمزقه من مشاعر طوال هذا اليوم، الذي أقل ما يوصف به أنه عصيب.
وما زاد من شعوري بهذا اليوم علاوة على شعوره بالأمس، أن الاحتفال بهذا اليوم يبدأ الآن مبكرا، وتعد له الأسواق والماركات المحلية والعالمية من قبله بشهور، ويوما عن يوم تزداد وتيرة إعلانات التليفزيون، وليت المعلن يكتفي بتفاصيل منتجه، لكن وإمعانا في تحريك مشاعر المشاهدين للإسراع بشراء المنتج قبل الأوان بأوان، يستدعي الإعلان خلفية موسيقية لأغنية الراحلة فايزة أحمد "ست الحبايب" التي تمزقني شر ممزق، ولا أظن أن أحدا ممن فقد أمه يسمعها، إلا وتقطع حزنا وألما على فراق أمه.
وحتى لا نذهب بعيدا، ونظن في بعضنا الظنون، فأنا لا أمانع من أن يكون احتفاؤنا بالأم كل يوم، ولن نوفيها حقها، لكن أن يكون يوما بهذا الشكل ننعم ونفرح به ونتمادى في فرحنا به احتفالا كرنفاليا، غير مبالين بمشاعر طفل أو صبي، طفلة أو شابة، حتى العجائز والكهول الذين يفقدون أمهاتهم يصل بهم الحنين إلى أمهاتهم حد البكاء، فهذا ما لا أتمناه.
فرحمة بي وبكل هؤلاء، أتمنى أن تلغى الاحتفالات بيوم محدد للأم، ولنجعل أيامنا كلها، احتفاء وتقديرا لها، ولنستبدل كرنفالات هذا اليوم، بترجمة فعلية تشعرها بقيمتها وقدرها العظيم، وهي تستحق أكثر من ذلك، لكن بعيدا عن بهرجة الاحتفالات، فدرء الأتراح مقدم على جلب الأفراح.
وإلى أن نقتنع بهذا المقترح أدعو كل من فقد أمه، ألا ينساها من دعائه كل يوم، وأن يهب لها من الصالحات والصدقات ما يؤنسها في وحدتها.
وإني هنا لي وقفة مع أمي وأخواتي الراحلات، أذكرهن بكل خير، وأقدم لهن ولكل أم رحلت عنا دعاء جامعا، عسى أن يكون لها ضياء ومؤنسا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم يا الله يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعَّال لما تريد، اللهم ارحم فقيدة قلبي وآنس وحشتها واجمعني بها في جنتك، اللهم ارحمها بقدر شوقي لها، اللهم ارحم أمي واغفر لها واجعل قبرها روضة من رياض الجنه هي وجميع موتى المسلمين.
اللهم ارحم أمي فهي أغلى ما فقدت وأسألك يارب أن تغفر لها وتنزل الضياء على قبرها وسعة تؤنس وحشتها.
اللهم آنس وحشتها وارحم غربتها وأنر ظلمتها وآمن روعتها.
اللهم أبدلها دارا خيرا من دارها وأهلا خيرا من أهلها وذرية خيرا من ذريتها.
ربي عطّر قبر أمي برائحة الجنة.
اللهم ارحم تلك النفس الطيبة التي فارقت الدنيا وانتقلت إلى جوارك، اللهم اجعلها في الفردوس الأعلى من الجنة.
اللهم انظر إليها نظرة رضا، فإنَّ من تنظر إليه نظرة رضا لا تعذبه أبداً.
اللهم أسكنها فسيح الجنان، واغفر لها يا رحمن.
اللهم شفِّع فيها نبينا ومصطفاك صلى الله عليه وسلَّم، واحشرها تحت لوائِه، واسقِهِا من يده الشريفة شربة هنيئة لا تظمأ بعدها أبداً.
اللهم قها عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم أنزل نورا من نورك عليها، اللهم حرم دمها ولحمها وبشرتها على النار برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، وقد دعونا شفاعة لها فاغفر لها يا غفور يا رحيم.
اللهم انقلها من ضيق اللحود إلى جناتك جنات الخلود، في سعة الدور والقصور في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعه مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
اللهم إنها في ذمتك وحبل جوارك فقها فتنة القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحق فاغفر لها وارحمها إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم إنها أمتك بنت عبدك بنت أمتك احتاجت إلى رحمتك وأنت غني عن عذابها فارحمها.
اللهم ارزقها لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك.
اللهم ارجع نفسها إليك راضية مرضيه وادخلها في جنتك مع عبادك الصالحين.
اللهم إن كانت من المحسنين فزد في حسناتها وإن كانت من المسيئين فتجاوز عن سيئاتها.
اللهم اجعل ذريتها سترا بينها وبين نار جهنم، اللهم اجعل ذريتها ذرية صالحة تدعو لها بخير إلى يوم الدين.
اللهم أني أسالك الفردوس الأعلى نزلا لها.
اللهم لا نزكيها عليك ولكنا نحسبها أنها أمنت وعملت صالحاً فاجعل لها جنتين ذواتي أفنان بحق قولك: “ولمن خاف مقام ربه جنتان” .
اللهم ارحمها فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك.
اللهم انزل نورا من نورك عليها، اللهم نور لها قبرها ووسع مدخلها وآنس وحشتها، اللهم ارحم غربتها وارحم شيبتها.
اللهم اجعل قبرها روضة من رياض الجنة، لا حفرة من حفر النار.
اللهم اطعمها من الجنة واسقها من الجنة وأرها مكانها من الجنة وقل لها ادخلي من أي باب تشائين.
اللهم إن كانت غير أهل لوصول رحمتك فرحمتك أهل لأن تسعها.
اللهم يا ذا الجلال و الإكرام يا حي يا قيوم ندعوك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت أن تبسط على والدتي من بركاتك ورحمتك واغفر لها حتى لا تضرها الذنوب.
اللهم اكفها كل هول دون الجنة واجعل مثواها الفردوس برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمين . آمين .. آمين يا رب العالمين، وأن آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلي الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
Comments