top of page

من القاهرة.. هنا مدينة الموتى


كتبت - هبة أحمد



للموت رائحة لا يدركها أحد، وللموتى أرواح لم تفارقنا أبدًا، ومن الاثنين تولد رهبة البشر، فلا يوجد من لا يخشى ذكر الموت أو ارتياد المقابر، وربما لم تكن للموت أبدًا سيرة محببة، لكن في مصر الحديث يختلف، إذ كانت له دائمًا وأبدًا سيرة مقدسة، والمؤكد أن التاريخ دائمًا ما كان منصفًا للموتى مثلما هو مع الأحياء، وكما أن صفحات التاريخ المصري لم تنس العظماء أو الصعاليك، كذلك لم تنس الطرقات والشوارع والأزقة عابريها، أحياء كانوا أم أموات، شرفاء أو أوغاد، ولأن الحضارة المصرية زخرت وتميزت بعمرانها من قصور وقلاع وكنائس ومساجد وأبراج، وبُنيت بها مدن للقداسة والدين ومُهدت أخرى للسياحة والعلاج، شُيدت كذلك مدينة الموتى.


ولأن "مصر ليست مجرد دولة تاريخية بل جاءت مصر أولا ثم جاء التاريخ" كما قال ابن النيل نجيب محفوظ، فلم تخشى مصر الموت أو الموتى، بل قدستهم، ومهدت لهم للحياة بعد البعث، وشيّد المصري القديم الأهرامات والمعابد والقلاع والجبانات؛ واهتم أبناؤه أيضًا بالعمارة، وبنوا إلى جانب القصور والقلاع ودور العبادة المقابر والمدافن والأضرحة.


وإن تجولنا بين سطور كتب التاريخ المصري التي لا تنضب، نجد أن مصر _ مهد الحضارات _ قد تميزت بمكانة تاريخية وجغرافية وأرض خصبة وهواء طاهر، لذا فقد أصبحت مطمعًا للغزاة والطامعين، ومأوى ومأمن للبعض الآخر، وما دخلها بشرٍ حتى عشقها، وقرر ألا يغادرها، بل ويدفن بها، وقد كانت منطقة المقطم واحدة من بين المناطق المقدسة في مصر والتاريخ يشهد على ذلك.


فمنذ غزو العرب لمصر بقيادة عمرو بن العاص أتت معه قبيلة يمنية تدعى بنو قراف، وسكنت هذه المنطقة، ونظرًا لأهميتها المقدسة لدى المصريين القبط فقد عرض عظيم القبط المقوقس على عمرو بن العاص أن يشتريها ب 70 ألف دينارًا، ولما علم العرب بأهميتها أبقوها لهم، ومن ثم أمر عمر بن الخطاب أن يُدفن بها من يموت من المسلمين، وكان أول من دُفن بها من أبناء بنو قرافة، وجاور قومه مدفنه، ثم دُفن بها عدد من الصحابة وأولادهم، ومن ثم سميت بالقرافة.


إذن من أين أتى اسم مدينة الموتى؟ ظلت المنطقة منذ حكم عمرو بن العاص حتى الدولة الأيوبية تضم أجمل منتزهات القاهرة، لكن مع الوقت انقسمت إلى القرافة الكبرى والتي تضم الفسطاط حتى سفح المقطم، والقرافة الصغرى والتي تضم ضريح الإمام الشافعي ومدفن الكامل محمد بن أيوب، ومع تعاظم أهميتها فقد سكنها الكثير من الأمراء والأعيان والمتصوفة، ومن ثم أصبحت مأمن الأموات والأحياء في آن واحد.


ومع قدوم الفاطميين ونقل عاصمة الدولة من تونس إلى القاهرة بنى المعز لدين الله الفاطمي قرافة الفاطميين ونقل بها رفات أبيه وأجداده، ودُفن بها 14 خليفة فاطمي، وبعد هدم وتخريب ما بناه جوهر الصقلي من تاريخ وتراث، دخلها الوزير المملوكي بدر الدين الجمالي بعد مائة عام وأعاد هيبتها وتراثها من جديد، إذ أعاد تخطيطها وشيد أسوارها وأبوابها، من باب النصر وزويلة والفتوح، ورغم تاريخ المماليك الطويل إلا أنهم لم يتخذوا لأنفسهم عاصمة مختلفة، بل أعادوا بناء ما تم تخريبه، إذ خلقوا لأنفسهم مجتمع عمراني جديد، وأضفوا على مصر العمران المملوكي، على طريق صحراء القوافل بين سور القاهرة الشرقي وتلال جبل المقطم.


ومن ثم ضمت تلك البقعة ما يقرب من 36 أثرًا تاريخيًا تراثيًا منها مسجد قايتباي وحوض السلطان قايتباي وسبيل قايتباي ومقعد قايتباي وقبة طشتمر وخانقاه خوند أم أتوك وقبة الأمير تنكزيقا وقبة الأميرة طولية ومقابر يونس الدوادار بجبانة المماليك وخانقاه فرج بن برقوق بجبانة المماليك وقبة كزل وقبة بن غراب بحارة وقبة الوزير شاهين وقبة جانى بك الأشرفى وقبة خديجة أم الأشرف وخانقاه مسجد الأشرف برسباي وقبة حسن نصر الله وقبة السادات الشناهرة وقبة الأمير سليمان وقبة برسباي البجاسي وقبة الكلشي وقبة عبدالله المنوفي وقبة أزرمك ومجمع السلطان الأشرف إينال وواجهة مدفن مراد بك وقبة السبع بنات وقبة قانصوه أبوسعيد وقبة ومدرسة الأمير كبير قرقماس، لذلك أطلق على تلك البقعة عدة أسماء منها صحراء المماليك أو صحراء قايتباي أو القرافة، ومن ثم أصبحت تلك الصحراء مدينة الموتى والأحياء.


لكن ماذا إذا علمت أن تلك المدينة التراثية من الممكن أن تهدم؟ وأن القاهرة التاريخية لن تصبح للموتى أو للأحياء؟ كان وقع هذه المعلومات قاسيًا على الشعب المصري عامة وأهالي المنطقة خاصة، لكن هل سمعت من قبل عن التراث الثقافي للأحياء في مدينة الموتى؟


إن هذا المشروع هو أحد مشاريع الاتحاد الأوروبي الذي تعهد أن يلتزم فيه بالحفاظ على ذلك الحي القاهري الفريد، إذ قام الاتحاد بتمويل ثلاثة مشروعات رئيسية حتى الآن في تلك المنطقة، من خلال منح إجمالية تصل إلى 1.3 مليون يورو، وقد استهدفت الحفاظ على المعالم الرئيسية في تلك البقعة المملوكية، إلى جانب إعادة تأهيل الأجزاء المهدمة والمدمرة ، من خلال صيانة تلك التحفة الفنية المعمارية، التي تم بناؤها في سبعينيات القرن الخامس عشر، لذا نقول من القاهرة.. هنا مدينة الموتى: افتحوا لها ـ مشاريع الاتحاد الأوروبي بمصرـ الباب.

Comments


bottom of page